عندما رفضت خياطة جرح ملوث دون تعقيم
يمنات
عبد الباري دغيش
عندما كنت رئيسا لفريق العدالة الانتقالية في مؤتمر الحوار الوطني خلال الفترة من مارس 2013 حتى يناير 2014م ، اردنا مخلصين أنا و زملاء و زميلات كثر في الفريق مداواة كل الجروح الغائرة و الظاهرة في الجسد الوطني اليمني شمالا و جنوبا، عبر معالجات نظيفة معقمة لا تترك أثرا موجعا وأحقادا و ضغائن، و لا احتمالا يقود الى انتكاسة عاجلة أو آجلة، و لا لحظات منغصة لاجترار الآم الماضي و تكدير صفاء الحاضر و تسميم أفاق المستقبل .. اردنا انصاف من تعرضوا للظلم والغبن و الاقصاء عبر عقود من الزمن، و رد الاعتبار لهم، و جبر الضرر و التعويض، و الاعتذار و الاعتراف بشجاعة و نبل من قبل الدولة جملة في الحد الادنى، مقاربة و محاكاة لبلدان عديدة طبقت مبادئ و اجراءات العدالة الانتقالية و خرجت بسلام و تلك المحاكاة كانت تعني لنا الاستفادة من تلك التجارب و تطبيق عدالة انتقالية يمنية مرتكزة الى أعرافنا و تقاليدنا اليمنية المشرقة و الى المقاصد الكلية للتشريع الاسلامي و التي تنسجم في الأساس مع الشرعة الدولية لحقوق الانسان، و الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال و منها تونس و المغرب و تشيلي و جنوب افريقيا و غيرها من بلدان العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية و حتى العقود القليلة الماضية التي نجحت في تطبيق العدالة الانتقالية و وصلت الى مصالحة وطنية شاملة نالت رضى كل الاطراف التي عاشت ازمنة الظلم، و ما زال تطبيق العدالة الانتقالية و استيعابها و ادماج مبادئها في برؤية وطنية ممكنا و متاحا و قابلا للتطبيق في أي بلد و في اي زمن..! و تم حينها مصادقة كل المشاركين على المحددات القانونية و الدستورية لإصدار قانون خاص بالعدالة الانتقالية و المصالحة الوطنية و الذي تضمن أيضا تشكيل “لجنة وطنية للعدالة الانتقالية و المصالحة الوطنية” تعمل على كشف الحقائق كاملة ذات الصلة بالانتهاكات و الجرائم المرتكبة منذ ستينات القرن العشرين، و تخليد الذاكرة الوطنية لضحايا الصراعات السياسية، و اعادة كتابة التاريخ كتابة محايدة موضوعية منصفة، و غير ذلك الكثير عقب انتهاء مؤتمر الحوار و بعد الاستفتاء على الدستور الذي وجب التوافق عليه وفقا للنظام الاساسي لمؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل قبل انزاله للاستفتاء.
لم أشأ كطبيب و كسياسي و برلماني و ناشط، و العديد من زملائي و زميلاتي في فريق العدالة الانتقالية خياطة جرح ملوث و إغلاقه دون تعقيم، لأننا كنا ندرك كم هو خطر مثل هذا السلوك، إذ سرعان ما سوف تنتشر العدوى و يتسمم كامل الجسد الوطني .. اردنا فعلا تجاوز نهج الاستقواء و مبدأ الغلبة كوسيلة للوصول الى السلطة، و طي صفحة الظلم و الصراعات التناحرية بكلفاتها العالية جدا في مصادرة الحقوق و ازهاق الارواح، و هدر الممتلكات العامة و الخاصة فيما لا ينفع الناس أجمعين، و الحفاظ على الحياة و احترامها و تكريمها كأحد اهم المقاصد الكلية للشريعة الاسلامية و غاية كل الشرعة “بضم الشين” الدولية لحقوق الإنسان الموقعة من قبل اليمن، و الحث و التحفيز على اعتزال حلبات الملاكمة و لعبة المصارعة و اسقاط الخصوم بالضربات القاضية المميتة .. لقد أردنا الدعوة للتحول الى نهج السباق الجميل و التبادل السلمي للسلطة و قبول التنوع و التعددية الحزبية و السياسية وفقا لدستور الوحدة اليمنية وفقا النافذ “نظريا” لا عمليا عبر الانتخابات الحرة النزيهة التي يجب ان يتم فيها ضمان تكافؤ الفرص و تسوية الملعب السياسي لكل ابناء الوطن، حيث لا ضرر و لا ضرار. لكن و للأسف الشديد، كان هناك الذين ارادوا خياطة الجروح و اغلاقها هكذا كما هي ملوثة بكل الاحقاد و الضغائن و عدم تجاوز السلبيات و عدم الاستفادة من كل الايجابيات و الخبرات المكتسبة المتراكمة منذ عقود طوال في كل تجاربنا الوطنية، و هذا ما قاد الى الانتكاسة المروعة .. لم تكن هناك ارادة حقيقية داعمة لهذا التوجه السلمي الجميل لإرساء الديمقراطية الحقيقية، لا الشكلية الديكورية، من صانعي القرار الحقيقيين على الصعيد الوطني، و لم نحظى بالدعم الاقليمي و الدولي من اولئك الراعين الأساسيين لمؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل، فالكل كما اتضح كان يبحث عن مدخل لتنفيذ اجنداته الخاصة الانانية القائمة على المطامع و السيطرة، و كانت الفرصة سانحة لهم بسبب تفرق أيادي سبأ، و لأننا ايضا كيمنيين لم نكن عند مستوى التحديات الماثلة، و لم تكن لدينا رؤية وطنية عابرة لكل القلوب و العقول و التنوع و التعدد الحزبي و الاجتماعي و الاقتصادي و الفكري و الثقافي و الجغرافي في مجتمعنا اليمني، كما لم نمتلك كعرب الى اليوم رؤية جامعة المستندة الى واقعنا التاريخي و تراثنا المشرق و تطورات العصر و الحضارة الانسانية التي كان لنا شرف وضع بعض حلقات في اوج مجد امتنا في شتى فنون المعارف و العلوم.
كان و مازال هناك من اراد و يريد البدء من سقيفة بني ساعدة و آخرون ارادوا البدء من عند الخلافة الراشدة او سليمان القانوني و ابن تيمية و غير ذلك .. لقد كانت احلامنا و ما زالت كبيرة و عظيمة و سوف نستمر في نضالنا – سلاما و محبة و سباقا جميلا – مع نفوسنا اولا، و ان انتكسنا فسوف ننهض من جديد، بعون الله و مشيئته، و نستمر بكل إصرار و عزيمة في دعوتنا للنضال السلمي على مضمار السباق الجميل من أجل تحقيق السلام و ضمان حقوق الانسان و حرياته الأساسية العامة و الخاصة، و تحقيق العدالة الاجتماعية و تكافؤ الفرص لكل أبناء الوطن و نرجو من الله الهداية و العون و السداد و التوفيق و الفلاح .. اللهم انت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام: أهدنا سبل السلام، وصل اللهم على محمد و آله، و الحمد لله رب العالمين.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.